جريدة الفجر

عدد (15)

 

لماذا يلجأ الله لوساطة الأنبياء والرسل بينه وبين عباده ؟

 

عندما تكون الخضره بساطاً مفروشاً بالإيمان يستقبل القلب نفحات النور الإلهى . . فيغسل همومه . . وينقى شوائبه . . ويضاعف من خشوعه . . وفى خضرة مزارع الكرام الطيبه . . ناقش الملتقى الصوفى الأول قضية التوسل . . أكثر من واحد وعشرين شيخاً من مشايخ الطرق الصوفيه إستجابوا لدعوة شيخهم حسن الشناوى لمناقشة هذه القضيه التى يصعب فهمها أحياناً . . ويختلف العلماء حولها غالباً .

قال أصحاب السماحه : إن لا أحد يمكن أن ينكر جواز التوسل إلى الله كما ورد فى قصة الثلاثه أصحاب الغار الوارده فى صحيح البخارى . . ولا أحد ينكر جواز التوسل بالأحياء عند الصالحين وهو ماورد فى صحيح البخارى أيضاً فى حديث الإستسقاء الذى رواه سيدنا أنس ( رضى الله عنه ) عندما إستسقى الصحابه بسيدنا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالوا : " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فإسقنا قال فيسقون " وهذا لا خلاف عليه . وحديث توسل النبى بنفسه وبالأنبياء من قبله الوارد فى صحيح الطبرانى عندما طلب الرحمه للسيده فاطمه بنت أسد أم الإمام على ( رضى الله عنه ) وهذا لا خلاف عليه حيث قال النبى : " اللهم بحق نبيك و الأنبياء من قبلى أن ترحم أمى فاطمه بنت أسد , اللهم أكرم نزلها ووسع لها فى قبرها " .

وكان لابد أن يصل الحاضرون إلى تعريف التوسل . . فقالوا : أن التوسل فى اللغه هو : " إتخاذ وسيله لبلوغ غايه " ولكن هذا معنى واسع للتعريف يشمل كل المخلوقات . . فلو إعتبرنا إن العين وسيله لبلوغ غاية الرؤيه والأذن وسيله لبلوغ غاية السمع و اللسان لبلوغ غاية الكلام والأرجل وسيله لبلوغ غاية السير . . . . فإن ذلك لا يقتصر على الإنسان وإنما يمتد إلى المخلوقات الأخرى التى تستخدم حواسها لبلوغ الغايات التى خلقت من أجلها تلك الحواس . . ولا عبره هنا بالجنس أوالنوع أوالسن أوالعلم أوالجهل أوالإيمان أوالكفر .

إذن ما معنى التوسل عرفاً ؟ . . قال المشايخ الفاضل : إنه بالمقياس السابق يعتبر التوسل ضروره فطريه , ومعنى ضروره فطريه أنه لا يحتاج إلى حكم شرعى أو فتوى تجيزه أو تمنعه , فإذا قيل : ما حكم الشرع فى طائر يطير بجناحيه أورجل يمشى على قدميه أومخلوق يسمع بأذنيه ؟ فإن السؤال يكون مضحكاً لأن إجابته تكون بسؤال إستنكارى هو: إذا لم يطر الطائر بجناحيه فبأى شىء يطير ؟ وإذا لم يسيرالرجل بقدميه فبأى شىء يسير ؟ وإذا لم بسمع المخلوق بأذنيه فبأى شىء يسمع ؟ . . إن حكم الشرع لا يطلب إلا عند وجود البدائل . .  وتلك أمور منطقيه . . طبيعيه لا بدائل مطلقاً . . وبذلك يكون الطائر قد توسل بأذنيه لبلوغ غاية السمع . . وغير ذلك . . وهذا معنى الضروره الفطريه .

وإقترب العلماء من المعنى الشرعى للتوسل وقالوا : لما كان الإسلام دين الفطره فإن المسلم يستخدم حواسه مثله مثل غيره من البشر . . ولكن الفرق بينه وبينهم أن الشرع وضع حدوداً لإستخدام الحواس بالنسبه للمسلم . . فلم يترك له حرية إستخدم لسانه مطلقاً . . فإن الصدق كلام . . والكذب كلام . . وشهادة الزور كلام . . والشهاده الحق كلام . . والغيبه والنميمه كلام . . والذكر كلام . . والشكر كلام . . والكفر كلام وكل ذلك من أعمال اللسان . . واللسان وسيله متاحه عند المسلم وغير المسلم . . وبالنسبه لغير المسلم الحق فإن اللسان مطلق لا يحده حد ولا يرده رد . . أما عند المسلم الحق فإن الشرع أباح إستخدام اللسان المتاح فى القول المباح كالصدق والشهاده الحق والذكر والشكر . . فلا يستخدم اللسان المتاح ( وهو وسيلة الكلام ) إلا فى القول المباح . المتاح . . و( وهو غايه ) . . ويقاس على اللسان الأذن والعين واليد . . وهنا قال الساده المشايخ : أن الوسيله لا تستخدم على إطلاقها بل لابد أن تقيدها أوتطلقها الغايه فإذا حلت الغايه يحل إستخدام الوسيله وإذا حرمت الغايه يحرم إستخدام الوسيله . . وكان خلاصة ذلك تعريف جامع لغة وعرفاً وشرعاً للتوسل .

التوسل هو إتخاذ وسيله لبلوغ غايه و هو ضروره فطريه تحل بحل الوسيله وتحرم بحرمتها . . هذا هو معنى التوسل بسهوله ويسر . . إنه القول الفصل الذى لايحرم الوسيله تماماً . . ولا يحلها مطلقاً فمن أفتى بتحريمه يكون قد عطل الفطره ( فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) أى لا توجد بدائل لتلك الفطره ( ذلك الدين القيم ) أى المعتدل . . الذى لا غلو فيه . . ومن أفتى بأن التوسل حلال تماماً يكون قد هدم الحدود . . حدود الله . . وتعدى عليها . . ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . وهدم الحدود معناه أن اللسان والأذن والعين واليد يستعملهم صاحبهم كما يشاء دون إعتبار الحلال والحرام . . وفى تلك اللحظه المستحيله يكون قد عطل الدين كله . . لابد من الوسطيه . . وهى تقييد وإطلاق التوسل طبقاً لحرمة الغايات التى خلقت من أجلها وحلها .

وكان السؤال الذى ضاعف من قوة النقاش : هل معنى أن محمداً رسول الله توسل ؟ . . هل يتوسل الأعلى بالدنى وهو غنى عن ذلك ؟ . . و كانت الإجابه : نعم . . إذن الضعيف الذى لا قدرة له هو أحوج إلى إتخاذ الوسائل لبلوغ الغايات . . ورسول الله هو وسيله الله لإبلاغ رسالته مع أنه سبحانه وتعالى غنى عنه ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) . . فالله سبحانه وتعالى غنى غنىً مطلقاً وقوى قوةً تامه على هداية عباده بغير أن يرسل إلى العقلاء من خلقه رسلاً . . لقد أرسل الله الرسل إلى العقلاء . . لا إلى غير العقلاء من مخلوقاته ( وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلى من كل الثمرات فأسلكى سبل ربك ذللاً ) فهو سبحانه وتعالى لم يرسل إلى النحل سيدنا جبريل , مع أن هداية غير العقلاء أصعب من هداية العقلاء . . وإن كان ذلك كله على الله يسيراً .

وكلنا يعلم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلًم أعز وأرقى منزلة عند الله من سيدنا موسى عليه السلام , مع أن الله سبحانه و تعالى كلم سيدنا موسى تكليماً بغير واسطه وكلم سيدنا محمداً بواسطة سيدنا جبريل , وعلى ذلك فإن وجود الواسطه بين الله وسيدنا محمد لا يطعن فى علو منزلته وعدم وجود الواسطه بين الله وسيدنا موسى لا يرفع منزلته فوق منزلة سيدنا محمد , فهل يصح أن نقول إن الإسلام مدخله الإقرار بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم رسول الله . . . بمعنى أنه وسيله الله ؟ . . بمعنى أنه الواسطه بين الله و عباده ؟ . . " يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم " . ." وأرسلناك للناس رسولاً . . " إنا أرسلنا اليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا " . . فهل يعتبر كل الرسل – وليس سيدنا محمد فقط – وسطاء بإذن الله وبمطلق إرادته مع الإقرار بأنه سبحانه الغنى غنى مطلقاً عن ذلك وغير ذلك ؟ . . نعم إن المدخل الصحيح للإسلام والضمان الذى حفظ الله به دينه هو الإعتقاد بأن سيدنا محمد ليس شريكاً لله ولا إبن الله بل هو واسطه بين الله وعباده ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) .

وكانت هناك مداخله من أحد المشايخ : عندما نطلق على رسول الله أورسل الله وأنبيائه وأولياؤه أنهم واسطه فإننا ننفى عنهم القدره الذاتيه على الفعل , لأن الواسطه لا يفعل شيئاً بذاته لعجزه , بل الواسطه يطلب من القادر , فإذا شاء القادر سبحانه لبى وإذا شاء رفض ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) .

وكانت المداخله الأكبر: أن التوسل كما يقول البعض يجوز بالأحياء ولايجوز بالأموات , وهذا أمر مضحك فلو فرقنا بين الأحياء والأموات فى جواز التوسل لأثبتنا بذلك – معاذ الله – أن القدره للأحياء قدره ذاتيه على الفعل يفقدونها إذا ماتوا  وكان هناك سؤال من أحد المشايخ : هل كل حى أفضل من كل ميت ؟ . . فَسُئلْ : ماذا تقصد ؟ . . قال : هل فرعون حى أفضل من فرعون ميت ؟ . . وكانت الإجابه : طبعاً لا . . فكان هناك سؤال آخر : هل إذا أحب الله عبداً وهو على قيد الحياه يكرهه إذا مات ؟ . . إذا صح ذلك يصح قولهم أن التوسل بالأحياء مباح وبالأموات حرام . . ثم إن التوسل دائماً يكون بأحباء الله . . " توسل بالحبيب إلى الحبيب لتحظى بالإجابة من قريب " . . والله سبحانه وتعالى أراد أن يكون سيدنا محمد هو الوسيله ( يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله و إبتغوا إليه الوسيله ) . . وإذا نظرنا إلى أركان الإسلام الخمسه فإن الركن الأول هو إقرار بأعلى أنواع التوسل إلى الله . . وهو رسول الله " محمد رسول الله " . . والركن الثانى . . هو إقامة الصلاه . . والصلاه عماد الدين لكل مسلم على حده  . . من أقامها فقد أقام الدين . . دينه وهذا يعنى أن من أراد أن يقيم دينه فوسيلته إلى ذلك إقامة الصلاه . . و الركن الثالث . . إيتاء الزكاه . . يقول النبى صلى الله عليه وسلّم " حصنوا أموالكم بالزكاه وداووا مرضاكم بالصدقه " . . هذا يعنى أن من أراد أن يحصن أمواله فليتوسل بالزكاه وأن من أراد أن يداوى مرضاه فليتوسل بالصدقه .

والركن الرابع هو صيام رمضان بقول النبى صلى الله عليه وسلّم : " إن فى الجنه باب يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون " . . وهذا يعنى أن من أراد أن يدخل الجنه فليتوسل بالصيام . . والركن الخامس . . حج البيت لمن إستطاع إليه سبيلا . . يقول الله تعالى " ولله على الناس حج البيت لمن إستطاع إليه سبيلاً و من كفر فإن الله غنى عن العالمين " . . وهذا يعنى أن كمال الإيمان لمن أستطاع السبيل إلى الحج  هو التوسل بأداء الفريضه , لأنه إن لم يفعل ذلك فهو فى دائرة الكفر . . " ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين " . . وبهذا المنظور نجد المطابقه كامله من حيث أن الإسلام دين الفطره والتوسل ضروره فطريه .

وقال أحد الشيوخ : أود أن أشير فى هذا المقام إلى قوله تعالى : " وإذا سألك عبادى فإنى قريب " . . ولم يرد فى هذه الآيه " فقل إنى قريب " . . كما هو الحال فى يسئلونك عن الأنفال قل " . . " يسألونك عن الأهله قل " . . " يسألونك عن المحيض قل " . . " يسألونك ماذا ينفقون قل " . . إلى غير ذلك من الآيات التى وردت حول السؤال للنبى . . والإجابه بقل . . ثم أستطرد الشيخ قائلاً : والملاحظ أن الآيات المذكوره بدأت بقوله تعالى " يسألونك " وهى عن الأشياء والأحكام وليس فيها قوله " وإذا " . . أوقول " عبادى " . . و المعروف عندنا أن " إذا " أداة شرط لها فعل شرط وجواب شرط . . فعل الشرط فيها " سألك " وجواب الشرط " فإنى قريب " . . ووجود الرسول فى هذه الآيه ضروره وهو شرط لقرب الله من عباده الذين يريدون قرب إجابه لا قرب علم , فكأن الله قد وضع شرطاً لقربه من عباده . . قرب إجابة هذا الشرط هو أن يسألوا عنه رسول الله . . وفى هذا عين التوسل به لبلوغ غاية القرب ولا يشير إطلاقاً إلى نفى التوسل به .

ثم قال أحد المشايخ : لقد ذكرتنى بالحديث المشهور الذى خاطب فيه الرسول إبن عباس رضى الله عنه فيقول له . . . " وإذا سألت فسأل الله وإذا إستعنت فإستعن بالله وإعلم أن الأمه لو إجتمعت على أن ينفعوك بشىء فلن ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ولوإجتمعت على أن يضروك بشىء فلن يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك , رفعت الأقلام وجفت الصحف . والمداخله هنا هى أن بعض الناس يعتقدون أن الأمه لا تنفع ولا تضر وينسون الإستثناء بإلا فالرسول لم يقل لن ينفعوك وفقط ولم يقل فلن يضروك وفقط ولكنه قال فى الحالتين إلا بشىء قد كتبه الله فمره لك ومره عليك والمقصود أن الله إذا كتب خيراً لك فإن الأمه تنفعك بما كتب . . لو كتب شراً فإن الأمه تضرك بما كتب . . وهذا إثبات النفع والضرر للأمه بما كتب الله وهذا الإثبات يقول عنه النبى صلى الله عليه وسلّم إنه لن يتغير , فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف . . ولم ترفع الأقلام رفعاً مطلقاً كما يفهمون فإن الأقلام مازالت تكتب قبول إستغفار المستغفرين وتوبة التائبين ومحو شقوة الأشقياء وإثبات سعادة السعداء وإلا فبأى شىء يمحو الله ويثبت . . لا شك أن ذلك بالأقلام ( يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) . . ولم يقل محا الله ما شاء وأثبت ورفع الأقلام وجفت الصحف , وفى النهايه فإن النافع هو الله مع الأخذ فى الأعتبار اليقين بأنه لا حرج على الله ولا شروط ولا محاذير فى كيفية النفع والله ينفع البشر بالبشر وبغير البشر وبالأحياء وبالأموات وخير الناس أنفعهم للناس بإذن الله .

والعبارات تحمل عل المجاز العقلى . . أنظر إلى قوله تعالى " قالت إمرأة فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا ". . والسيده آسيه بنت مزاحم زوج فرعون مؤمنه وإحدى نساء سيدات العالمين . . ولم تقل بإذن الله فالله ينفع بالأشياء وهذا ليس بشرط لأنه قادر على أن ينفع بغيرها وقد يضر بما ينفع وينفع بما يضر وما ينفعك به الآن قد يضرك به غداً ولا حرج على فضل الله فإن الفضل بيد الله يضعه حيث يشاء وعلى المؤمن أن يطلب فضل الله حيث وضعه . . ولا حول ولا قوة إلا بالله .